مفتاح وحدة الأمّة في مواجهة تحدياتها

مفتاح وحدة الأمّة في مواجهة تحدياتها

مفتاح وحدة الأمّة في مواجهة تحدياتها

 

الأستاذ عثمان محمّد جاه
رئيس المركز الإسلامي للتقريب بين المذاهب في غامبيا
قاض بمحكمة الإستئناف الشرعي- غامبيا

 

بسم الله الرحمن الرحيم
توطئة
إنّ الحديث عن هذا الموضوع ذو شجون, فيتطلب من الباحث قبل تقرير مصيره أن يقف على كلّ كلمة على حدة لمحاولة حلّ الألغاز الكامنة  وراء تكوينها ومغزاها في موضعها الخاص بهذا البحث.
وأبدأ بوحدة الأمة الإسلامية.
ففرق بين " الوحدة الإسلامية" وبين " وحدة الأمّة الإسلامية", فالأولى واقعة في الأساس بالوضع, فالإسلام جسم واحد, أعضاؤه متسق ببعضها البعض, له مصدر واحد, وغاية واحدة, ووسيلة واحدة, وهو ما جاء به النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله عن ربّه عزّ وجلّ, فلا يمكن تجزئة جسم الإسلام, ولا مصادره, يقول ربّ العزة والجلال (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) ([1]), فليس للإنسان يد في وحدة الإسلام, وإنّما هو نتيجة قدَر كونيّ ربّاني, يقول الله تعالى ( وإنّ هذه أمّتكم أمّة واحدة وأنا ربّكم فاتقون) ([2]), وحدة قبل التكوين. وأمّا الوحدة بعد التكوين فمن مسئوليات الكائن, وتكاليف المكون. وامتثال هذا التكليف وعدمه يميّز بين المكلفين في الفوز برضا الخالق وعدمه.
ولجعل الفرق بين الأمرين واضحا, دعنا نقارن بين آية البقرة السالفة الذكر وآية هود الآتية, حيث قال الباري سبحانه وتعالى:( ولوشاء ربك لجعل الناس أمّة واحدة ولايزالون مختلفين, إلاّ من رحم ربّك ولذلك خلقهم...)
قرّر لنا القرآن الكريم في آية البقرة أنّ الأمّة الإسلامية أمّة واحدة, وذكر في هذه الآية أن الناس أمم كثيرة, وجعلهم أمّة واحدة تابع لمشيئة الله تعالى, ولكن تلك المشيئة سبقه قدر كوني على عكس الوحدة, ولأنّ تعاقب الأزمان واختلاف الأمكنة يستلزم منهما اختلاف الأحياء في كلّ زمان ومكان, هذا بالإضافة إلى إرادة الخالق في جعل اختلاف الأمم وسيلة لاختبار أفراد كلّ أمّة في صدق انتمائه وتمسكه بمبادئ الأمّة التي ينتمي إليها.
وأمّا الأمّة الإسلامية فبالرغم من اختلاف شعوبها, ومناهل أفكار ها, ومذاهبها الفقهية, فهي أمّة واحدة بوحدة الرابطة التي تجمعها, رابطة ربّ واحد, ونبيّ واحد, وقرآن واحد وقبلة واحدة, و, و, و, إلى آخره.
والله تعالى حين يصف الأمة بأنّها واحدة كان يعلم طبيعة المنبع [الإسلام], وطبيعة المصب[الأمّة], فالناس متفاوتون في القدرات الفكرية ووسائل الدراية والاستنباط, وهذا التفاوت يؤثر في نتائج استنباطات المفكرين, لذا اقتضت حكمة الخالق أن يبني طبيعة المنبع على ثوابت ومتغيّرات, ويجعل مجال الخلاف بين المفكرين في الثوابت ضيقا أو معدوما, بينما وسعه في المتغيرات, ذلك لأنّ الثوابت لا تتأثر بتعاقب الدهور واختلاف الأمكنة, بخلاف المتغيرات, فإنّها تدور حيث دار الزمان والمكان, فتتلوّن طبقا للمصالح العامة, المبنية على القواعد والأسس العامة, ولكن الإجتهاد فيها لايتخطى حدود النصوص ومدلولاتها.
والفرق بين موقف العلماء في الثوابت والمتغيرات, هو نفس الفرق بين الوحي الإلهي والفكر البشري, فالوحي توقيفي, والفكر البشري توفيقي, فالوحي مقدس, والفكر البشري معرض للطعن, لذا سجّل التاريخ الإسلامي في أكثر من مسألة يريد فيها الأصحاب رضوان الله تعالى عنهم أن يبدوا آراءهم, ولكنهم لايجرؤون أن يعبروا عمّا في نفوسهم قبل التأكد عن كون المسألة من الثوابت فيسلموا لها, أم من المتغيرات فيبدوا آراءهم.
والمنتظر من الكتاب والباحثين ومختلف المذاهب الإسلامية ألاّ يحجّروا واسعا, فيضيّقوا الفسحة بعد أن مهّد لهم الشارع طريقا ومنهجا للتعامل مع المتغيرات والثوابت, ويتمثّل ذلك المنهج في الاتفاق والتسليم للثوابت, والاختلاف والتسامح في المتغيرات.

عقبة في طريق الوحدة
الأمّة الإسلامية بكثرة شعوبها جزء من المجتمع الإنساني المصاب بالتفرق الطبيعي والتفرق الكسبي معا, فقد عبّر القرآن الكريم عن طبعية التفرق الإنساني, فقال عزّ من قائل ( يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم إنّ الله عليم خبير) ([3]).
فهذا وإن كان تعددا جبلّيا إلاّ أنه من عوامل الاجتماع والوحدة, ثم عبر عن تفرقها الكسبي في قوله تعالى: (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون) ([4]).
وعبّرعن التفرق الطبعي لهذه الأمّة بقوله: ( لكلّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولوشاء الله لجعلكم أمّة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم... ) ([5]) . 
وجاء في حديث قدسيّ أن الباري سبحانه وتعالى قال: ( إنّي خلقت عبادي حنفاء كلّهم فاجتالتهم الشياطين عن دينهم وأمرتهم أن يشركوا بي).
وعبّر عن طبعية وحدة الأمّة الإسلامية بقوله: ( وإنّ هذه أمّتكم أمّة واحدة وأنا ربّكم فاتقون), وحدة في لوازم الربوبية ووحدة في مقتضى الألوهية, ووحدة في الثوابت, ووحدة في لوازم المتغيّرات.
وعبّرالقرآن الكريم عن عامل ديمومة وحد ة الأمّة واستمرارها بقوله: ( واعتصموا بحبل الله جميعا) أي أن بالتمسك بحبل الله الممدود من السماء إلى الأرض فقط تتحد الأمّة, ثمّ حذّر الأمّة عن التفرق الكسبي في الآية نفسها وقال: ( ولاتفرقوا) ([6]).
ثمّ فسّرت هذه الآية باللتي في سورة الأنفال: (وأطيعوا الله ورسوله ولاتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) ([7])
  وعند استعراض هذه النصوص القرآنية المقدسة يستنتج أنّ الإنسان بصفة عامة يتجاذبه في كلّ الأوقات عاملان مؤثران: عامل الطبيعة التي جبل عليها, وهو محمود ونافع إذا فهم وأحسن استخدمه, وعامل الكسب الناتج عن اختياره الشخصي, وهذا العامل ذو وجهين: حسن, وقبيح.
ونحن إذ نتحدث عن الوحدة الإسلامية أو التقريب بين مذاهبه ونروّج فكرتها, فإنّما نقصد الوحدة التي تتحقق بتسخير قدرات الأمّة وتذليل العقبات التي تعترض سبيلها, وبعبارة أخرى اتفاق الأمّة على آلية تنفيذ خطط الوحدة الطبيعية, ومنع تسرب داء الخلاف الكسبي إليها, ويعني ذلك اعتراف طبعية الخلاف في المتغرات, وتبني روح التسامح فيها.
وسبيل الوحدة تعترض عليه عقبات وتحديات خارجية وداخلية, واقتفاء بمنهج القرآن في العمل الدعوي, ولأنّ إصلاح الذات مقدم على إصلاح الغير, اخترت التركيز في بحثي هذا على ما أراه أصلا يمتد منه جميع جذور التحديات والعقبات الداخلية والخارجية معا, وأنّ التغلّب عليه يحلّ جميع المشاكل التي تعاني منها الأمّة, وتلك العقبة هي:

اختلاف الآراء والمذاهب.
لم تكن الخلافات المذهبية في السابق عقبة كعداء علي سبيل توحيد صفوف الأمّة, لكونها تنبع عن أساس طبعية الخلاف في المتغيرات التي دعا الشرع إلى التسامح فيها مع احترام رأي الآخر, وكان سلف الأمّة يعتقدون جازمين بأنّ وحدة الأمّة ضرورة حتمية من ضروريات الدين, وواجبٌ العمل على تحقيقها وجوبَ العمل بجميع  قطعيات الدين وثوابته, كما اعتبروا التفرق من محرمات الدين, معتمدين في ذلك على أمر الله تعالى بالتمسك بحبله جميعا ونهيه عن التفرق.
ومن تصفح كتب السلف يرى أنّ الاختلاف في الرأي والاجتهاد في المسائل الفقهية وبعض المسائل الأصولية بدأ منذ عصر خيرة الصحابة رضوان الله تعالى عنهم وأهل البيت الأطهار عليهم السلام, ثمّ اختلف مَن بعدهم مِن تابعيهم في مسائل فقه النوازل والمستجدات, وكان احترام رأي الآخر سمتهم, ولم يكن اختلاف وجهة النظر في مسألة من المسائل الاجتهادية يوما سببا للطعن في سلوك أو معتقد المخالف أو التباغض والتفرق, وإنّما كانوا يعدونه من قبيل نعم الله ورحمته بأمّة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم, بناء على ما حكى الخطابي أنه رواية عنه عليه السلام: " اختلاف أمتي رحمة"([8]) .
ويعنى بالاختلاف هنا تعدد وجهات نظر المجتهدين وتفاوتهم في الفهم والمدارك, وغايته الوصول إلى ما يراه المجتهد حكما شرعيّا صحيحا في المسألة المختلف فيها مع بقاء صدور المختلفين في صفاء ورحب, بعيدين عن العصبية وسوء الظن بنيّة المخالف.
أورد الإمام النووي في شرح صحيح مسلم عن الخطابي قوله: ( والاختلاف في الدين ثلاثة أقسام أحدها في إثبات الصانع ووحدانيته, وإنكار ذلك كفر. والثاني في صفاته ومشيئته وإنكارها بدعة. والثالث في أحكام الفروع المحتملة وجودها فهذا جعله الله تعالى رحمة وكرامة للعلماء وهو المراد بحديث اختلاف أمّتي رحمة.) ([9]) .
ولم يكن الخلاف واردا في قاموس السلف بحيث يبطن أحد أصحاب الرأي لمن يخالفه فيه ضغينة وحقدا أو يقصد صاحب الرأي المخالف في مخالفته العصيان, وبالتالي يغيب عنه الحق فلا يصل إلى الحكم الصحيح في المسألة.
فالاختلاف إذن خير ورحمة لوجود تفاوت في الفهم والاستنتاج, ولوجود تباين في الأزمنة والأمكنة, واختلاف في الحالات والحاجات مع توقف النصوص, وكلّ ذلك يفرض علينا حالة من الاختلاف في الرأي. ولولا الله تعالى ثمّ اختلاف العلماء لعجز الدين الإسلامي عن حلّ مشاكل المجتمع الإسلامي, وعن إعطاء أجوبة شافية عن النوازل والمستجدات الغير المتوقفة إلى الأبد بعد توقف النصوص وغياب المبعوث.
ذلك لأنّ من رحمة الله تعلى على أمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) أن بنى شريعته على أساس المصالح, وجعل مصادر الأحكام فيها قواعد وكليّات عامة, ثمّ فوّض جزئياتها وتفاصيلها إلى من لهم آلة الاجتهاد من العلماء, ويلزم المجتهد أن يتسلح بالقاعدة المشهورة "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب", ويتعلم من القرآن الكريم أسلوب الحوار البنّاء.
ففي سورة سبإ حوار بين صاحب حق[ النبيّ] وصاحب باطل [ الكفار] قال تعالى: ( قل لا تسألون عمّا أجرمنا ولا نسأل عمّا تعملون) ([10]).
وحكى الصابوني عن الزمخشري قوله: " وهذا أدخل في الإنصاف وأبلغ من الأول" ([11]). فيستحيل أن يصدر عنه عليه السلام جرم, في وقت يستحيل فيه عكسه عن الكفار, ومع ذلك أمر الله تعالى نبيّه أن يستخدم أسلوبا لطيفا وليّنا مع الخصم بهذه الدرجة من التنازل.
هذا هو المنهج القرآني في حلّ مسائل الخلاف حتى في أصول الدين, وبين نبيّ وكفار, وهو منهج من سبقونا من العلماء الربّانيين المخلصين, وأمّا ما نشاهده اليوم من سلبية في التعامل مع الغير, وشكّ في نيته ورميه بتهم خبيثة لا نجد له دلالة في قاموس الحوار أو الجدال إلاّ الشعور بخيبة الأمل في الانتصار, فيلجأ إلى السبّ والتبديع والتفسيق, وهذا المنهج الأخير مبتدع في الدين وفي العلم معا, فالدين لله تعالى والعلم علمه, فمن أراد أن يكون لرأيه ثقله واعتباره فاليعضده بكلام الشارع أو المعصوم, فيسلّم له, وإلاّ يعرض كلامه في سوق المزاد العلني منتظرين من يشتريه.
ولم تكن الخلافات المذهبية الفرعية يوما عقبة في سبيل الوحدة إلاّ بعد أن دخلها التعصب في الرأي والجمود الفكري المطبق, فقد ثبت تاريخيا وقوع خلافات حادة بين أتباع مذهب واحد أو أتباع مذاهب مختلفة, بل الاختلاف في الرأي هو السبب الحقيقي في وجود واقع المذهبية والخلاف في الرأي الذي نعيشه, سواء داخل مسمّى "السنّة" أو داخل مسمّى " الشيعة", ولكنّ اختلافهم لم يصل بهم إلى رمي المخالف بالكفر, والتحالف مع الكفار لحرب الآخر لمسلم باسم الجهاد في سبيل الله, معتمدين على فتاوى رخيصة يصدرها المتعصبون من ذوي الأطماع والمآرب الشخصية, لأنهم كانوا يعتبرون إخلافهم تطبيقا عمليا لطبيعة التعامل مع المتغيرات.
ومن تتبع كتب الصحاح والسنن وغيرها يجد عددا من مسانيدها فيها رجال الشيعة ومعتمدين لديهم, ومن بين هذه الكتب الصحيحان: البخاري ومسلم, وأذكر لذلك أمثلة لا على سبيل الحصر.
إسماعيل بن عبد الرحمن  بن أبي كريمة السدي المعروف لدى أهل السنة والمشهور في تفسير القرآن الكريم, قال عنه الحافظ بن حجر العسقلاني: صدوق يهم, ورمي بالتشيع. واعتمد عليه مسلم وغيره في أسانيدهم.
إسماعيل بن أبان الورّاق الأزدي شيخ البخاري في صحيحه, وأورده مسلم في مراسيله, وخرج له الإمام الترمذي في سننه. قال عنه الحافظ في تقريب التهذيب: كوفي ثقة, تكلّم فيه للتشيع.
جعفر بن زياد  الأحمر الكوفي, قال عنه الحافظ: صدوق يتشيع, وأخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
حبيب بن أبي ثابت الكوفي, قال عنه الحافظ: ثقة فقيه جليل.
خالد بن مخلد القطواني, قال عنه الحافظ: صدوق يتشيع, وهو من شيوخ البخاري في صحيحه, ومسلم والنسائي وابن ماجه  والترمذي وفي مسند مالك.
عبد الله بن موسى بن أبي المختار الكوفي ثقة وقال عنه الحافظ: كان يتشيّع, وهو من شيوخ البخاري وغيره.
هشام بن عمّار بن نصير الدمشقي صدوق وهو من شيوخ البخاري.
مالك بن إسماعيل النهدي الكوفي ثقة متقن, صحيح الكتاب عابد, ومن شيوخ البخاري وغيره.
علي هاشم بن البرير قال عنه الحافظ: صدوق يتشيع, روى عنه أحمد.
علي بن المنذر الطريقي الكوفي قال عنها لحافظ صدوق يتشيع روى عنه النسائي والترمذي وابن ماجه
علي بن الجعد بن عبيد الجوهري البغدادي, ثقة ثبت, رمي بالتشيع, وهو من شيوخ البخاري وأبو داود([12]) .
 فهؤلاء وغيرهم كثيرون من رجال الشيعة خرّج لهم أصحاب السنن والصحاح من أهل السنة, ولا يخفى على القارىء العزيز ما الذي  يعنيه ذلك من حيث لزوم اعتبار رأي المخالف واحترامه, فالبخاري ومسلم عند أهل السنة كتابان شبه مقدسين , ولقد انعقد شبه إجماع على صحة كل ما فيهما عن رسول الله صلى الله عليه وآله, وكلّ ما صحّ عنه فالمسلمون متعبدون به.
والإشكال فيما إذا كان المحكوم عليهم بالبدعة تارة وبالكفر تارة أخرى يعتمد بهم في أسانيد أهل السنة, ويتعبد بمتون رواياتهم مع غيرهم, ألا يكون ذلك تناقضا واضحا في المنهج والسلوك؟.
ألم يحن إذن للمتعصبين أن يقتفوا آثار مشايخهم مثل البخاري ومسلم ومالك, وإن وجد في بعض كتاباتهم هم أيضا تجاوزات في ذات الموضوع؟! ولكنّنا لانلوم المتعصبين فإنهم مأجورون, وسرعان ما يتوقفون عن تسريب سمومهم القاتلة في عروق جسد الأمّة بعد أداء واجب خدمتهم تلك أو تتوقف الأجور.
فقد لا يختلف إثنان إذن في القول بأنّ التحدي الوحيد والعقبة التي تعترض طريق وحدة الأمة هو اختلاف الآراء أو المذاهب الذي لم تتمكن الأمة حتى الآن أن توجد لها حلاّ مناسبا ودائما, ولا توجد في هذا الوقت خطوة جادة ومنظمة تهدف إلى تحقيق وحدة الأمة, مثل التي يخطوها المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية في طهران بالجمهورية الإسلامية الإيرانية, ذلك المنبر الذي يستظل بظله علماء ومفكرون سنّة وشيعة من جميع بقاع العالم.
ولكن, وللأسف الشديد بدأ أعداء الوحدة والتقارب والسلام أيضا يبثون سموم التفرقة ويجدّدون حملتهم التشكيكية ضد فكرة الوحدة أو على الأقل فكرة التقارب, قائلين بأنّ فكرة التقريب شيعيّة, ولا تخدم إلا مصلحة الشيعة, وعليه فكل مروّج لفكرة التقريب فهو عندهم شيعي, وكون الشخص شيعيّا يعني عند هؤلاء المتعصبين كثيرا.
والحق أن نسبة مشروع التقريب إلى أي مذهب يكون شرفا لذلك المذهب, لأن أول من أمر بالمقاربة في قوله: وقاربوا" أى إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل فاعملوا بما يقرب منه([13])هو المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي يدعي بعض من جهل حقيقة سنته بأن منهاجهم صورة طبق الأصل من منهاجه عليه السلام, وهذه الدعوى تجعل التاريخ يرجع نفسه: (قالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء) ([14]).
ومن بين ما يحملني على القول بأنّ جميع المشاكل والصعوبات التي عانت ولم تزل الأمّة تعاني منها- ماعدا ما وقعت من تنبؤاته عليه السلام- مصدرها اختلاف الآراء والمذاهب والتعصب لهما, وهو ذاته الذي أنتج الأحداث التاريخية المؤلمة في السابق, والتي تحدث في الوقت الحاضر.
والاختلاف في فهم النصوص وكليات الشريعة بدأ يظهر أوّل ما بدأ بين أصحاب النبي صلى الله عليه وآله فور التحاقه بالرفيق الأعلى.
ومن الأحداث التاريخية القديمة التي امتدت جذورها لتشمل أحداث الوقت الحاضر:
 
 أ - حادثة السقيفة.
اقتضت سنة الله تعالى في خلقه عدم خلد البشر أيّا كان, ومحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يستثن من تلك السنة, فكان الموت آخر مطافه في هذه الحياة الدنيا, وبعد أن قبض المولى روحه الطاهرة إلى جواره يوم الاثنين 13 ربيع الأول سنة 11 هجرية الموافق 8 يونيو سنة 633 ميلادية, وقبل دفنه انعقدت في سقيفة بني ساعدة جلسة مناقشة حول بيت الخلافة الإسلامية بعده, وحضر الاجتماع كلّ من الأنصار والمهاجرين, وغاب عنه أهل بيته عليه السلام منشغلين بأمور التجهيز والدفن.
وعلى حسب روايات المؤرخين, فقد ظهرت من خلال نقاط المداولات الأفكار والاتجاهات الآتية:
 1- أن الخلافة أمر مشاع بين المسلمين, فليس لأي بيت اختصاصها, وهذا ما فهم من موقف الأنصار استنادا إلى ما كان لهم من فضيلة النصر وإيواء النبيّ صلى الله عليه وسلّم, أو بعبارة أخرى اعتبارا لحق المضيف.
2- أن الخلافة خاصة ببيت, وهذا الرأي ذو شقين:
الشق الأول: تخصيصها بالبيت القرشي على إطلاقه, وكان هذا رأي الجمهور, ومال إليه القرشيون من المهاجرين استنادا إلى العصبية التي لم ينازع فيها أي بيت من البيوت قريشا, ويتزعم هذا الفريق أبو بكر الصديق ومعه عمر وغيرهم رضي الله تعالى عنهم, ويفهم هذا التعليل من خطبة أبي بكر حين قال: إن هذا الأمر إن تولته الأوس نفسته عليهم الخزرج, وإن تولته الخزرج نفسته عليهم الأوس ولا تدين العرب إلاّ لهذا الحي من قريش.
والشق الثاني: تخصيصها بالقرابة القريبة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم, وهذا الرأي للإمام عليّ عليه السّلام وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم, استنادا إلى ما لهذه القرابة من طهر ومكانة دينية مرموقة([15]).(1)
ويفهم من هذا السرد التاريخي الموجز سرعة وقوع فتنة شديدة بين أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم,  فور وفاته, وفي أخطر مسألة وأكثرها حساسية بين المسلمين, مسألة الخلافة, ولستُ في هذا الموقف ألقي باللوم أو أدافع عن أحد, فذلك متروك للقارىء العزيز, وإنّما أهدف إلى تأكيد الحجة في دعوى أصالة الخلاف بين المسلمين وعمق جذوره, وأنّ أحدا لم ينج منه, مما يقتضي العمل جماعيا للتقليل من شأنه والتخفيف من آثاره السلبية.

ب - نصب الإمام عليّ عليه السلام خليفة للمسلمين.
ففي يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة 35 الموافق 20 مايو سنة 656 قتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه في بيته بعد حصار دام عشرين يوما, على أيدي رجال مجهولين حسب تعبير كثير من المؤرخين, ولكن- وللأسف الشديد- عرف من بينهم محمّد بن أبي بكر, الذي حاول بعض المؤرخين تطهير يده من دم عثمان بحجة أنه ليس هو المباشر الحقيقي للضربة التي أزهقت روح الخليفة وإن كانوا يقرون بأنه فعلا كان يريد قتله.
وقد حكي أبو الفدا الحافظ بن كثير في بدايته ونهايته أنّ محمّد بن أبي بكر جاء إلى بيت عثمان في ثلاثة عشر رجلا, فأخذ محمد بن أبي بكر بلحيته حتى سمع وقع أضراسه, فقال له: ما أغنى عنك معاوية, وما أغنت عنك ابن عامر.. )
ومع ذلك فقد نسب بعض المؤرخين التهمة في قتله إلى الغافقي, والبعض الآخر نسبه إلى سودان بن حمران, وخلفت عملية قتل عثمان بكاملها زهق ثلاثة أرواح: روح الخليفة عثمان, وروح غلام له كان يدافع عنه, وروح سودان على يد الغلام المذكور, بالإضافة إلى قطع يد امرأة الخليفة نائلة بنت الفرافصة([16]) . 
فنهاية هذا الخليفة وإن كانت نتيجة لامتداد فتن هي مهد الخلافة الإسلامية, إلاّ أنها كذلك تنبىء إلى شدة اشتعالها واستمرارها في التي تليها, وتحت هذه الظروف اعتلى الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام عرش الخلافة.
ظلّ رأي الشق الثاني المتمثل في لزوم تخصيص الخلافة بالقرابة القريبة من الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من الاتجاه الثاني القائل بلزوم تخصيص الخلافة ببيت من قريش هادئا منذ البداية رغبة في تحقيق الوحدة الإسلامية بأيّ ثمن. وفي نصب الخليفة الرابع عليّ بن أبي طالب عليه السلام أصبح الرأي واقعا عمليا, ولكن بصورة ملفتة للأنظار, خلاف ما كان يحدث عند نصب من سبقوه من الخلفاء, فلم يتمكن الخليفة الجديد من بسط سلطة خلافته لتعم جميع الولايات التي كانت في عهود من سبقوه, لوجود معارضين أقوياء لخلافته لتأويل أوّلوه, وهؤلاء هم معاوية بن أبي سفيان رئيسا, وسيدتنا عائشة, وطلحة, والزبير رضي الله تعالى عنهم أعضاء. إشترط معاوية لقبول إمامة عليّ عليه السلام شرطا كان من المستحيل تحقيقه, وكانت النتيجة تعميق الخلاف, وإحداث انقسام وفجوة كبيرين بين أصحاب المصطفى صلى الله عليه وآله, فريق يؤيّد موقف الإمام عليّ وآخر يؤيد موقف معاوية, فنشبت حربا الجمل وصفين اللتين أديتا بالفريقين إلى التحكيم المثير للجدل حتى الآن.
وهاتان الحربان زادت الفجوة عمقا’ وانقسمت الأمة إثرهما إلى ثلاث فرق, شيعة عليّ عليه السلام, وشيعة معاوية, والخارجين عنهما وهم الخوارج, ولم تزل آثار هذه الحروب الدامية والعداوات المهيجة لروح الانتقام أو استرجاع الحق تتوارثها الأجيال إلى جيلنا هذا.
   وتحت هذا الجوّ المشحون بالغضب والشعور بالظلم, والرغبة في رد الحق إلى نصابه, تمّ نصب الخليفة الرابع ربيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم, وابن عمّه, وزوج بنته علىّ بن أبي طالب عليه السلام يوم السبت 19 ذي الحجة سنة 35 هجرية([17]).
والذي يهمنا في هذا السرد الموجز أيضا هو تأكيد صحة أحداث تاريخية خطيرة أثرت في حياتنا نحن اليوم, ولم يكن ينبغي أن تكون كذلك, فلزم القيام أيضا للبحث عن حلول تجنب الأمة ويلات الخلاف والحروب في المستقبل.

 ت - حادثة التحكيم.
كان من نتائج عدم اعتراف معاوية لخلافة عليّ حرب الجمل. كان معاوية ابن أبي سفيان يرى, بل يلحّ على الخليفة الجديد عليّ بن أبي طالب قبل أن يعترف بسلطته إقامة العدالة على قتلة قريبه عثمان, واقتنع بفكرته هذه كلّ من سيدتنا عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها وطلحة بن عبيد الله المعروف بطلحة الخير وطلحة الفيّاض , والزبير بن العوام بن خويلد.
وهؤلاء الثلاثة كانوا على رأس قائمة من خرجوا لطلب دم عثمان بن عفّان يوم واقعة الجمل التي خلفت عشرة آلاف قتلى من أعلام الصحابة, ومنهم طلحة والزبير, وهذه النتيجة المؤلمة ساهمت في إشعال نار أخرى أشد ضراوة, وهي واقعة صفين.
   ذكر الحافظ في البداية عن أبي جعفر الباقر وزيد بن أنس وغيرهما قالوا: سار عليّ في مائة وخمسين ألفا من أهل العراق وأقبل معاوية في نحو منهم من أهل الشام. قال: وقال غيرهم: أقبل عليّ في مائة ألف أو يزيدون, وأقبل معاوية في مائة ألف وثلاثين ألفا) وسقط في ساحة المعركة سبعون ألفا من الفريقين, قال
 الحافظ: وقال الزهري: بلغني أنه كان يدفن في القبر الواحد خمسون نفسا([18]).
وهذه المحصلة المروعة من القتلى دفعت الفريقين إلى النزول لقبول التحكيم, الذي ترأس فيه وفدَ الإمام عليّ أبو موسى الأشعريّ, وترأس عمرو بن العاص وفد معاوية, ويفهم من النقاش الذي دار بين الرئيسين لفريقي التحكيم أنّهما اتفقا على عزل من يريانهما خصمين لدودين, وأنّ شأن الأمة لن يصلح إلاّ بعزلهما, ثمّ يجعل الأمر شورى بين المسلمين لاختيار شخص آخريرضاه الطرفان.
   ولكن مالذي حدث بعد ذلك؟ خرج الحكمان لإعلان نتيجة الاجتماع المتفق عليها بين الفريقين, فقدّم عمرو بن العاص رئيسُ وفد معاوية أبا موسى الأشعري رئيسَ وفد عليّ في الكلام, وأعلن بدوره اتفاق الطرفين على عزل كلّ من الإمام علىّ [ع] ومعاوية [ر] واختيار من يراه الناس أصلح لهذا الشأن.
فقام عمرو بن العاص وقال: إنّ هذا- إشارة إلى أبي موسى الأشعري- قال ما قد سمعتم وإنّه قد خلع صاحبه- يعني عليّا-  ووإنّي قد خلعته كما خلعه وأثبت صاحبي معاوية فإنّه ولي عثمان بن عفّان, والطالب بدمه, وأحق الناس بمقامه([19]).
  فهذه هي تصريحات أمير وفد معاوية عمرو بن العاص. ومهما اختلفت الروايات فلا يوجد خلاف في محتوى نتيجة التحكيم هذه.
أيها القارىء المنصف, فما الذي كنت ستراه في هذه النتيجة المخيبة للآمال لو لم يكن الطرفان صحابيين؟
وهل الصحبة تحول الحق باطلا؟ أم الحق يدون ولا يتحدث عنه؟!
أم هل قاعدة الاجتهاد مقلوبة أو مخصوصة للصحابة دون غيرهم, بحيث يكون المخطئون في مسألة التحكيم مجتهدين ولهم أجر, في وقت يكون المجتهد في بيان أخطائهم وذكر الرأي الصحيح في ذات المسألة مخطئا وعليه أوزار؟!.
والسؤال الملحّ في هذه المسألة هو هل هناك قرابة دم بين عثمان بن عفّان وسيدتنا عائشة من جهة, وطلحة والزبير من جهة أخرى, وتكفل لهم تلك القرابة حق المطالبة بدم عثمان المقتول ظلما؟
ألم يكن الإمام عليّ عليه السلام على حق؟
ألم يصف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم الفئة المحاربة للإمام علي بالفئة الباغية ؟
ألم يكونوا كلهم أصحابا للنّبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم؟ أليس كلّ ما حدث إذن كان تحقيقا لتنبؤات النبيّ صلى الله عليه وسلّم بأن فتنة ستقع بين أصحابه من بعده؟
ولماذا إذن التناحر والتكفير والقتال بين مذاهب بعد ذلك وكلها إسلامية, في وقت يوالي فيه بعض أتباع المذاهب من حادّ الله ورسوله, هل هذا هو الدين.؟  
قال الشيخ عبد الوهاب النجار: أمّا عائشة أمّ المؤمنين فما كان لها أن تتولى كبر هذا الأمر ولا أن تطالب كما تزعم بدم عثمان فإنّ أولياء دم عثمان كثيرون....ولولا وجودها في الجيش لماتت الفتنة في هذه الناحية ولم يكن لهم نظام ولا حمية. فكانت سببا لاشتداد البلاء على المسلمين ومثارا لأمور أنتجت الحزن والأسى. وأمّا طلحة والزبير, فهما كذلك ليسا من ولاية عثمان في شيء وقد كانا له بين قائم في الفتنة مثير حريقها وبين خاذل مشير إشارته.... وخرج كلّ منهما ليغسل الدّم بالدّم ويكفّر عن السيّئة بأفحش منها جرما وأسوأ منها عقبة فسهّلا على عائشة خروجها إلى ما ليس من شأنها..) ([20]) .
   هذا هو بيت القصيد, فحق قاله الشيخ عبد الوهاب, وليس ذلك يعني أنّ من حرّم الحديث عنها, أشد حبّا منه لهؤلاء الأصحاب, خصوصا وأنّ الذين يحرّمون الحديث عنه هم أنفسهم الذين دوّنوا هذه المآسي في كتبهم, ويشتمون مخاليفهم في الرأي, فقط لسبب المخالفة في الرأي, ألم يكن ذلك عين التناقض؟.
إن هذه الأحداث التاريخية المؤلمة التي أوردتها هنا كلها منقولة عن كتب أهل السنّة والجماعة, ولم أنقل شيئا منها عن كتب الشيعة خوفا من ردها قبل صدورها كعادة المتعصبين. ولأنّ شهادة الشاهد على نفسه إقرار وهو سيّد الأدلة. لذا سقت ما أمكن من أقوالهم وقصصهم في هذا الموضوع.
والغرض من ذلك كله أيضا هو تأكيد أصالة الخلاف وعمق جذوره بين الطوائف الإسلامية, وأعني [الإسلامية], وأنّ أحدا منهم لم ينج منه فينبغي عدم صب الاهتمام بإلقاء اللوم على طائفة دون الأخرى أو تكفيرها بسبب الخلاف في الرأي, متجاهلين عن هذه الحقائق التي تأبى الجدال والمراء.
وبدلا من تخصيص "موضوع الشيعة" المثير للجدل المفتعل دائما لدى المتعصبين بالبحث, أرى في مناقشة الأحداث التاريخية التي ذكرتها كفاية لمعرفة من هم الشيعة.
فالسؤال الذي يطرح نفسه هو أين الشيعة وأين السنة من بين الخصمين في الأحداث التاريخية الآتية؟
 
أولا: حادثة السقيفة
فالشيعة هم أصحاب الشق الثاني من الرأي الثاني وهو تخصيص الخلافة بالقرابة القريبة من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم , وبالأخص بسيّدنا عليّ عليه السلام لنصوص يستخرجونها من بطون أمهات كتبهم, والصحاح من كتب الخصم, ويقولون إنّها نصّ في خلافة الإمام عليّ عليه السلام, وأنّ الإمام عليّ إيمانا منه بأحقية الخلافة له بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم تأخر عن مبايعة الخليفة الأول أبي بكررضي الله تعالى عنه, وإنّما بايعه حرصا على وحدة الصفّ, علما بأنّ عملية بيعة الخليفة أبي بكر تمّ في غياب الإمام علي(ع) وقبل دفن سيّد البشر لأنه كان هو وبقية أفراد أهل البيت الأطهار منشغلين بتجهيزه ودفنه.
والسؤال هنا هو من هم أهل السنة والجماعة في هذه القضية بالذات؟ وما دليلهم على تعيين الخليفة؟. وهل الإمام علي عليه السلام ليس من أهل السنة؟ فإذا كان دليلهم مبنيا على نصّ مؤول, أو رأي واجتهاد, ألم يحق للفريق الآخر أن يعتمد على نصوص مؤولة, أو رأي واجتهاد, فلما ذا نحجّر واسعا؟.

ثانيا: حادثة نصب الإمام عليّ عليه السلام خليفة
فالشيعة هم الذين وقفوا مع الإمام عليّ وفاطمة بنت الرّسول عليهما السلام في الإيمان بوجوب نصب الخليفة للمسلمين قبل تسوية قضية مقتل الخليفة عثمان بن عفّان, تلك القضية التي تأول بها رافضة خلافة عليّ بن أبي طالب, وأنّ عليّا هو صاحب الحق في هذا الشأن, وأنّ فئته هي المصيبة وفئة غيره هي الباغية بنص النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم على ذلك.
فمن هم أهل السنّة إذن في هذه القضية؟ هل هم الذين وقفوا مع الفئة الباغية؟ وإذا صحّ لهم تأويلهم البعيد في وقوفهم مع الفئة الباغية فرضا, فلماذا لا يصح للفريق الثاني الوقوف مع الفئة غير الباغية معتمدين بنفس التأويل فرضا؟

ثالثا: حادثة التحكيم
فبعد حادثة التحكيم انقسمت الأمة إلى ثلاثة أقسام, نعرف منها اثنان ونجهل عن الثالث, فالشيعة منهما هم الذين تمسّكوا بالاستمرار على مبدأ التأييد لموقف الإمام عليّ عليه السلام ومناصرته لكي يسترد حقوقه, مثل وقوفهم معه في موقعتي الجمل وصفين بقيادته عليه السلام.
والخوارج هم الذين كفّروا الحكمين وكفّروا كلّ من رضي بحكمهما وخرجوا علي الفريقين وقتلوا الإمام عليا عليه السلام.
فمن هم أهل السنة والجماعة إذن في هذه القضيّة؟ أهم الذين وقفوا مع معاوية في الموقعتين وناصروه في موقفه ضد خلافة الإمام على, وهل هم الذين أيدوا موقف رئيس وفد معاوية إلى التحكيم الذي صرح بخلاف المتفق عليه بينه وبين رئيس وفد علي؟.
ثمّ من أين ومتى عرف هذا اللقب لهم, ألم يكن من باب المقابلة؟ وهل الوهابيون من أهل السنة والجماعة؟
فإذا كان الجواب في كل ما ذكرت بلا. فمن هم إذن؟
وإذا كان بنعم- ولا إخالهم يقولون-, فما تأويلهم لموقفهم هذا إذن؟ ثمّ إذا جاز لهم تبرير مواقفهم هذه بحجة الاجتهاد والتأويل, فلم يحرم اجتهاد غيرهم وتبريرهم لمواقفهم تلك؟!.
أسئلة ترد في ذهن كل قارئ للتاريخ, شاء أم أبى, فإمّا أن يلزم الطرفان الصمت تقديما للمصلحة العامة المتمثلة في وحدة صفّ الأمة, أو يطلقان العنان في تبادل تهم ومحاولة تغيير حقائق تاريخية مودعة بطون أمهات كتب الفريقين معا فيستمر الانقسام إلى الأبد, ويفسح لأعدائها مجالا للهجوم على إحدى الطائفتين بواسطة الأخرى, فتضعف الأمة وتفقد قيمتها التي تكمن في اعتصامها جميعا بحبل الله تعالى.
ولجعل الصورة فيما نحن فيه أكثر وضوحا نختم هذا البحث بضرب أمثلة لآثار التعصب المذهبي الأعمى التي عشناها ولم نزل نعيشها, وهي تعتبر من آثار كبريات تحديات الأمة في الوقت الحاضر, ومن تلك الآثار:

أ_ ما يحدث في العراق
 فما نشاهده اليوم من عمليات وتفجيرات انتحارية وإختيالات شبه يومية في الشاشات التليفزيونية من قبل المتعصبين بتعاون وتنسيق مع قوات الاحتلال الأجنبية, لا أجد لها مبررا بجميع المقاييس, الدينية أو الأخلاقية أو الوطنية.
وللأسف الشديد, فكل الهجمات تنفّذ باسم ما يسمونه الجهاد في سبيل الله. وهنا أتساءل, ضدّ من هذا الجهاد؟ أهوضدّ الكفرة والملاحدة أوالصهاينة؟ لا. بل, هو ضدّ المخالف في الرأي أوفي المذهب [ المتغيرات]. ضدّ من يتفق معهم في ثوابت الدين!
فلقد هدّم المتعصبون أعداء السلام والوحدة في العراق جميع أركان قلعة  الوحدة والتعايش السلمي التي بناها الإسلام والوطنية للفرقاء, فلم يعد للجارولا للوطن أو للدين حق, ولم تعد قطعيات الدين تجمع الأمّة, فكيف عن  متغيراتها.
لم يكن إزهاق أرواح الذين حرّم الله قتلهم إلاّ بالحق, ولم يكن استهداف دور العبادة ولاالأبرياء والشيوخ والعجزة, ولاالممتلكات والبيئة معهودا في الحروب بين ديار الإسلام وديار الكفرزمن رسول الله صلى الله عليه وآله, ولا في زمن من بعده من المجاهدين المخلصين, فالإقدام لمثل هذا السلوك المشين يغيرأهداف الجهاد في سبيل الله, ومعالمه وغاياته التي من أجلها شرع. فكم من إنتحاري فجّر نفسه وراح ضحية تفجيره عشرات الأبرياء من المسلمين, وهو في عمله هذا يصرخ بلسان حاله قائلا:هؤلاء يخالفونني في الرأي, وهؤلاء فسقة يجب قتلهم, وفي قتلهم ثواب من الله تعالى وأجر عظيم.
فكم عمّقت هذه الممارسات الاّ أخلاقية والاّ إنسانية باسم الدين هوة الخلاف بين سكّان وطن واحد وأتباع أمّة واحدة, وأبعدت القلوب عن بعضها البعض وقوّضت جهود الوحدة وتمنع توحيد الصفّ لمواجهة العدو المشترك.

ب - قضيّة فلسطين.
كانت قضية فلسطين من أهم القضايا التي تشغل بال العالم الإسلامي برمّته, وكانت الأمّة الإسلامية تراها مظلة ورابطة قويّة وصالحة لتوحيد صفوفها, كانت الدول الإسلامية تعادي إسرائيل وتقطع علاقاتها معها احتجاجا على سياستها الاستعمارية ضد الأرض المقدسة وفلسطين, وبقيت القضية هكذا حينا من الدهر قبل أن تتبدل وتتغير اتجاهها, فقد تحوّل من كونها قضية إسلامية تهمّ كافّة أفراد الأمّة, إلى قضية مستعربة.
إنّ استعراب قضية فلسطين أبعد جميع الدول الإسلامية غير العربية وأجبرتها على التخلي عن مسئولياتها الدفاعية عن الأراضي المقدسة, إلاّ تلك الدول التي تؤمن بمبدأ الأخوّة الدينية, وفي الوقت نفسه تخلى عنها العالم العربي, فأصبحت قضية القدس وفلسطين مجرد سلعة في أيدي أصحابها ترتفع القيمة تارة
وتنخفض تارة أخرى تبعا لتطورات السياسات العالمية, وهذه الحالة جعلت الأرض خصبة لأمريكا والغرب رعاة الإنسانية- ادّعاء- إلى أخذ مبادرة لتبنيها لكونها سلعة رائجة, وأستغرب كيف تؤتمن أسباع بقطيع من غنم.؟!!!.
فالصفة التي ظهر بها التعصب المذهبي في قضية فلسطين أسوأ وأبعد بكثير من تصور العقل البشري من أية صفة وأية قضية أخرى, فالجبهات النضالية التابعة لفلسطين كلها فلسطينية تخدم مصالحها وتصب جهودها في القالب العام, وذلك يجعل مساعدة أيّ منها مساعة للأخرى ما دام الهدف المتمثل في تحرير أراضيها موحدا, ولكن, للأسف الشديد أصبح المثل" الفحلان لا يجتمعان في مشرب واحد" عمليا في قضية فلسطين, فقد تخلت العرب تخليا شبه تام عن مساندة حماس في غزة لسببين:
الأول: أنّ الجمهورية الإسلامية تقف مع حماس في خندق واحد لمواجهة العدو المشترك بالرغم من اختلاف مذهبيهما, تقديما بذلك الأصل على الفرع, والذي هو مبدأ الأخوة الدينية التي ينبغي إعطاؤها الأولوية في التعامل مع كلّ من هو مسلم.
الثاني: أنّ حماس يرفض الاستسلام والركوع للغرب وإسرائيل معا, وذلك لما علّمته التجربة الطويلة أنّ سياسة الاستسلام لا يجنى منها ثمار إلاّ الإذلال والهوان.
ولقد بدأ الحق يتبلّج شيئا فشيئا, حين أعلنت الولايات المتحدة وبصوت عال وواضح عجزها عن إجبار أو إقناع الصهاينة على إيقاف مشروع الاستيطان والتوسع الجاريين في المدينة المقدسة بفلسطين, و نجحت الصهاينة بذلك في تحويل مشروع التوسع الاستيطاني وجعله هو القضية الأمّ, بدلا من الاحتلال الذي أصبح هو القضية الفرعية, فباتت القضية الأمّ في طيّ النسيان.
ومن تابع تطورات قضية فلسطين اليوم, واستمع إلى تصريحات مسئولي السلطة الفلسطينية, يدرك حجم ما في قلوبهم من شعور بخيبة أمل وانخداع كبيرين فيما توصلت إليه القضية من تخاذل أمريكان والغرب عن جوهر القضية, وازدياد قوة موقف الصهاينة, وعدم استعدادها للتنازل عن أيّ شبر من الحقوق التي اغتصبتها من الفلسطينيين, وكلّ ذلك دفع بالسلطة إلى اقتراح حلول استسلامية بعيدة عن المقاومة التي هي السبيل الوحيد- حسب التجارب- لاسترجاع الحقوق المغتصبة من أيدي الصهاينة, ولكن السلطة رأت عدم جدواها, وتمسكت بخيوط معاهدات ووعود كلها من تكتيكات الخطط الحربية الصهيونية العالمية وعملائها وأعوانها.
فلو أنّ القضية ظلت إسلامية, وتخلت الأمّة عن داء التعصب المذهبي لما كانت لغز الحلّ في تلك القضية بيد الغرب أو بيد الأمريكان, ولانتصر الفلسطينيون في النهاية.

 ت - ما يحدث في الصومال.
إن أسوأ ما يشهده التاريخ الإسلامي في العصر الحديث من التدني في الفكر وتقديم المصالح الشخصية على المصالح العامّة, وإلغاء جميع الروابط العرقية والدينية والأخلاقية, هو ما يحدث الآن في الصومال, فقد مزّقت وحدة أمتها الصراعات السياسية والحروب المدمّرة لأجل السلطة.
فنحن نرى أنّ ما يحدث في العراق طبيعيّ على أساسه وقد يتفهّم,- وإن لم تكن الغاية تبرر الوسيلة,- بخلاف ما يحدث في الصومال, فذاك يقصر عنه العقل البشري السليم عن تصوره ناهيك عن العقل الديني, فالمتناحرون كلّهم صوماليون أصالة, وسنيّون مذهبا, وسلفيّون منهجا. كانوا كلّهم في جبهة قتال واحدة, وكان هدفهم المعلن الذي يتمثّل في إحقاق الحق وإبطال الباطل وإقامة العدل موحدا. وفور انتصارهم وتأسيس ما كانوا يرون أنّها دولة حقّ, سرعان ما تصدع بناء وحدتهم تلك, فانشقت طائفة وانعزلت بنفسها, وبدأت الطائفتان تتراشقان بتهم تندى لها الجبين, وكأنّهما ما اتحدتا يوما, فبدأ الانحراف والعنف يدبّان بين صفوف الفريقين, فعمّ بهما الفوضى.
وكانت النتيجة ما نشاهدها اليوم في الشاشات, وتتناقلها وسائل الإعلام من القتل والتجويع والتشريد والهدم وجميع أنواع ويلات الحروب المدمرة.
فعلى فرض أنّ لإقامة دولة إسلامية تحكّم شرع الله تعلى أهمية قصوى, إلاّ أنّها لم نكن نتصور أن تكون
في غياب حكومة تَحكم وشعب يُحكم.
إنّ الوقت قد حان لأن تفيق الأمّة من نومتها العميقة وتعيد النظر في طريقة تفكيرها المتخلفة وتنهض بنفسها إلى أعالي الأمور بدلا من سفاسفها, وتغيّر أساليب العنف والتشدد والتعصب والانغلاق في تعاملها مع القضايا ذات العلاقة, وتكبح جماحها في نشر الفوضى وخلق شعارات برّاقة باسم الدين, أو باسم السنة وهما عنها بريئان.
فلنكن صريحين وصادقين في ما نقول, أو نختصر الطريق, وأمّا إظهار ما هو خلاف الباطن فليس من شيم المؤمنين الصادقين, وهو ما بدأنا نلمسه في كثير من قضايانا وشعاراتنا. ولنا مثل بشعار" السنة ", فنجد دولة واحدة كلّ سكانها من أهل السنّة, فتأتي مجموعة أخرى تقدح في صحة انتماء أولئك إلى السنة, بدعوى أنّهم يرتكبون أخطاء أو يمارسون بدعا حسب تصنيفهم الخاص, فيخرجونهم من دائرة "السنة", و الخروج عن دائرة سنتهم تلك يعني عندهم الكفر والدخول في النار والعياذ بالله تعالى, ثمّ يأتي من بعدهم آخرون بالفكرة ذاتها, فيتراشقون تهم التكفير, فتنتشر العداوات والبغضاء فيما بينهم, وفي النهاية يحمل كلّ فريق السلاح ضد الآخر, والسنّة الصحيحة من دعوى الفريقين معا بريئة, وإنّما الموجود هو السنّة المؤسسية, إذ السنّة النبوية ليست حكرا لأية مجموعة أو أيّ مذهب من المسلمين, كما أنّ التشيّع الصحيح ليس حكرا هو الآخر لأيّة مجموعة أو مذهب من المسلمين, ولكن السذج من بعض العلماء, أو الذين يقصر فهمهم عن حقيقة الدين أو السنّة ينخدعون  بتلك الشعارات البرّاقة فيهدمون بناء وحدة الأمّة.
هذا في تصوري له عنصر صحة في نسبتها إلى أسباب الصراعات السلطوية في الصومال التي أصبحت بلا حكومة ولا شعب, فأصبح كلهم مشردين واختلط الحابل بالنابل. والله المستعان.

العوامل الخارجية
يقول الله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملّتهم) ([21]) .
وقال تعالى: (لتجدنّ أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا) ([22]).
وقال النبيّ صلّى الله عليه وآله: ( يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها" فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: " بل أنتم يومئذ كثير, ولكنّكم غثاء كغثاء السيل, ولينزعنّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم, وليقذفن الله في قلوبكم الوهن". فقال قائل: يا رسول الله, وما الوهن؟ قال: " حب الحياة وكراهية الموت) ([23]) .
فليس من المستغرب إذن أن تكيد هؤلاء وأولائك على الأمّة, ولم تعد عداوتهما للأمة مسألة مهمّة ومخيفة, لأنّ القرآن الكريم ساعد الأمّة على كشف أسرارهم ونياتهم, وذلك بحدّ ذاته سلاح لو أحسنت الأمّة استخدامه لاستطاعت أن تدمر به العدو, ولكن العكس هو الصحيح.
هنا ينبغي أن ترجع الأمّة فتسأل نفسها عن سبب تأثرها بالعامل الخارجي, وأرى أنّ السبب في عدم الاستفادة من إنذار القرآن وعدم الاتعاظ به, فيكون العيب في النهاية فينا أشد مما فيهم.
فبدلا من أن تعتبر الأمّة هؤلاء اليهود أعداء, صادقتها ووالتها وتحالفت معها بدلا من معاداتها التي دعا إليها القرآن الكريم.
وياحبذا لو توقف القرآن في إنذاره بالآيتين الكريمتين, ولكن جاء بتعبير آخر أدق وأكثر تحذيرا من الأوليين فقال عز من قائل: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء...) ([24]).
وقال النبيّ صلى الله عليه وآله: ( لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا في جحر ضبّ لأتبعتموهم قلنا: يا رسوا الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)([25])
فكثيرا ما نبالغ- معاشر المسلمين- في اتهام العامل الخارجي عند ما نناقش ما أصاب بالأمّة من تفرق وشتات, وننسى العوامل الداخلية التي لا تستقيم الأمة ولا تصلح إلاّ بصلاحها, فالعامل الخارجي لم يكن ليؤثر في كيان الأمّة لو أنّّ الأمّة أغلقت أبواب مداخله التي من أهمّها الاختلاف في الآراء والمذاهب.
فإذا وجد من بين دول العالم الإسلامي من يتحالف اليوم عسكريا وفكريا واقتصاديا مع الصهاينة, بل ويرى عدم جدوى التحالف والتعاون مع أختها من العالم الإسلامي في ذات المجالات, تبين لنا مصدر الخلل والداء الذي أصاب بلأمّة.
فالمصدر هو مخالفة أمر الله تعالى وأمر نبيّه عليه السلام وعصيانهما. وقد سبق للمولى سبحانه وتعالى أن حذّرنا من مخالفة أمره وأمر نبيه عليه السلام فقال عز من قائل: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)([26]) فلو أنّ الغرب أو أمريكان- راعيتا مصالح الصهاينة العالمية- لم تجدا من بين حكام العالم الإسلامي آذانا صاغية, لما تمكّنتا من التسلل بين صفوف الأمّة.
نعم نعترف ونقرّ بأنّ الفقر وشدة الرغبة في البقاء في الحكم مما يدفع بعض حكام العالم الإسلامي إلى التحالف مع الغرب وأمريكا, أو حتى التحالف مع الصهاينة, ولكن هذا الدافع بحدّ ذاته أساسه الوهن وضعف النفس, وإلاّ لعلموا أنّ كل ما يريدون تحقيقه عسكريّا أو اقتصاديا مع العدو, فمع الصديق أغنى وأكثر أمنا.
  وإذا نظرنا إلى الآثار السلبية التي خلفتها التحالفات الناتجة عن الأسباب الاقتصادية أو الأمنية فلا تقاس كمّا ولا كيفا بالآثار السلبية الناتجة عن اختلاف الآراء والمذاهب, فالأولى شكلية لفظية, وأمّا الثاني فعملية مدمّرة.
ثمّ إنّنا لا نستبعد تأثير اختلاف الآراء والمذاهب حتى في التحالفات السياسية والعسكرية بين دول العالم العربي والإسلامي, فمن دقق النظر في شكل تحالفات العالم الإسلامي يظهر له أنّ أغلب مبانيها اختلاف الآراء والمذاهب تبعا لتصنيف الغرب وأمريكا.
فحين يعتقد حاكم إسلاميّ أنّ التحالفات الدفاعية مع أمريكا تضمن له البقاء إلى الأبد, أو أنّ المعونات الاقتصادية تدرّ له مصدر رزق دائم بلا مقابل عزة دولته وكرامتها فهو واه.
فعلى فرض أنّ القرآن الكريم لم يقطع أملنا من قبل عن الاستفادة بأيّ نوع من هؤلاء القوم, ولكن التجربة والخبرة علمتنا بما فيه الكفاية استحالة الاستفادة منهم, فنلاحظ أنّ كل من اعتمد في اقتصاده عليهم من دول العالم الإسلامي يزداد فقرا, ومن اعتمد عليهم في أمنه وأمن وطنه يزداد خوفا وتهديدا, فالأمر إذن وهن وضعف نفس وعقدتها, وقد نهانا القرآن الكريم عن الوهن والاستسلام للعدو في أكثر من آية:
قال تعالى: ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله وتلك الأيّام نداولها بين الناس...) ([27]) .
وقال تعالى: (ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنّهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما) ([28]) .
وقال تعالى: ( فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم) ([29]) .

مفهوم الآيات
إذا لاحظنا هذه الآيات بدقة نجدها جميعا تهدف إلى تشجيع المؤمنين ووعدهم بالانتصار على أعدائهم إذا توفرت فيهم الشروط الآتية:
 القوّة والعزة.
 الشعور بعلو الدرجة والقدر على كلّ من ليس بمؤمن.
 اليقين على أنّ الناس متساوون في الشعور بالألم والشدّة.
 الاعتماد على الله تعالى, والشعور بمعيته في كلّ الأحوال.
والسؤال هو هل هذه الشروط متوفرة فينا, فإذا كان الجواب بلا, فلا ينبغي أن نتوقع الانتصار على أعدائنا قبل علاج داء الوهن فينا.                      
فالوهن والاستسلام من الأمراض النفسية, وهي لا تغير واقعا, وإنّما الذي يغيرّ الواقع الذي نعيشه هو الإيمان بالله تعالى وعزة النفس أمام الأعداء والأخذ بأسباب القوّة.
قال تعالى: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم...) ([30]) .
وأستغرب كيف يلتمس عاقل النصرة والقوّة من عدوه الذي يحاربه؟!.
وإذا ما رجعنا إلى ما نحن فيه بعد هذا العرض يتأكد لنا أنّ كلّ ما ذكرناه من قبل يبرهن وبدون أدنى شك على أنّ اختلاف الآراء والمذاهب هو العامل الرئيس لما نعاني هذه الأيام من تفرق وشتات وحروب دامية وضعف مستمر.

البرنامج النووي الإيراني
ولنا مثل بالقضية الوقتية الساخنة, " البرنامج النووي الإيراني". ففي هذه القضية يلاحظ كيف وأنّ جميع موازين العدالة والإنصاف مقلوبة تماما لدى الصهاينة والمجتمعات الغربية والأمريكان.
ولكني لا أقصد أن أضرب بتلك المجتمعات مثلا, وإنّما الجانب الذي أريد تناوله في هذه القضية هو موقف العالم العربي بصفة خاصة تجاه القضية, فبعد أن تأكد حكام العالم العربي على نزاهة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وبعدها عن الإرهاب الدولي ورغبتها الأكيدة في التقارب والتعاون مع جيرانها, وشعورها بالمسئولية الضخمة التي أنيطت على عاتقها, والتزامها بالقانون الدولي, وعجز الغرب والأمم المتحدة معا عن إثبات شيء من تهمها الموجهة إلى الجمهورية الإسلامية, ومع ذلك كله وقف أغلب حكام الدول الإسلامية مع الصهاينة وأعوانها في رفض البرنامج النووي الإيراني, بحجة أنّ قوة إيران التي تستمدها من إيمانها بمسؤوليتها الدفاعية عن كافة الأمّة تهدّد أمن الصهاينة الغاصبة وأمن دولهم هم أيضا.
والصحيح الذي لا جدال عليه هو أنّ دعوى تهديد أمن الخليج من قبل جارها إيران يبطلها التاريخ وواقع السلوك الإيراني معا, فلم يبق في المسألة إلاّ اختلاف المذاهب والآراء.
 
التوصيات  
كلّ سيوافقني الرأي في أنّ النقد الذاتي البنّاء من أهم مقومات الإصلاح, ولكن الاستسلام للواقع أيضا من شيم العجزة, وعليه أرى ضرورة وضع مقترحات عملية لمواجهة أكبر التحدي وأخطره للعالم الإسلامي, وأرى النقاط الآتية تساهم في وضع حدّ لمعاناة الأمة, الناتجة عن آثار اختلاف الآراء والمذاهب.
 أ - إنشاء مجامع تقريبية محليّة في باقي الدول الإسلامية على غرار المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
ب - خلق رابطة بين المؤسسات التقريبية المحلية وبين المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية, وإيجاد آلية لدعم نشاطات المؤسسات التقريبية الفرعية.
ت - توعية المسلمين على أنّ الفكر البشري غير مقدّس, وأنّه وجه من أوجه الفهم الإنساني للوحي الإلهي وأنّ التقارب والتفاهم بين العلماء والمفكرين غير ممكن في غياب المقولة الشهيرة " رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب)
فقد نقل لنا الإمام النووي في شرح صحيح مسلم عن الخطابي قوله: " والاختلاف في الدين ثلاثة أقسام: أحدها في إثبات الصانع ووحدانيته, وإنكار ذلك كفر. والثاني في صفاته ومشيئته, وإنكارها بدعة, والثالث في أحكام الفروع المحتملة  وجوها, فهذا جعله الله تعالى رحمة وكرامة للعلماء وهو المراد بحديث "اختلاف أمتي رحمة"([31]).
ث - تشجيع الحوار الهادئ المبني على أسس وقواعد سليمة, وتوجيه الدعاة على المنهج القرآني في الحوار, كالذي استفدناه من قوله تعالى وهو يأمر نبيّه عليه السلام: ( قل لا تسألون عمّا أجرمنا ولا نسأل عمّا تعملون) ([32]) .
فلو لا مراعاة  مشاعر الطرف الآخر لانسحب نفس التعبير عليهم, وليقال: ( ولا نسأل عمّا تجرمون) فامتنع من ذلك احتراما لمشاعر الطرف الآخر.
إقناع الدعاة على أنّ متغيّرات الدين أكثر وأوسع مجالا من ثوابته, وأنّ الاجتهاد المشروع يكون في متغيرات الدين, وأنّ مصادر ذلك الاجتهاد هي القواعد الكلية, والنصوص العامة.
 ح - أن يقتنع جميع اتباع المذاهب بأن الحق مشاع بينهم, وأنّه ضالة لكل من يجده, وعليه فلا ينبغي بعدئذ حمل الناس على رأي اجتهادي, أو تبديع المخالف أو تفسيقه أو تكفيره إلاّ بدليل شرعيّ معتبر, ويكون بعد حوار أو مناظرة علمية. 
قال الذهبي في ترجمة الإمام بن نصير المروزي: (لو أنّا كلّما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفورا له قمنا عليه وبدّعناه وهجرناه, لما سلم معنا ابن نصير ولا ابن مندة ولا من هو أكبر منهما, والله هو هادي الخلق إلى الحق وهو أرحم الرّاحمين, فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة").
وقال الإمام النووي: ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصا أو إجماعا أو قياسا جليّا".

وأخيرا
فإنّ الآثار السلبية لاختلاف الآراء والمذاهب كبيرة وخطيرة لغياب أسلوب الحوار البنّاء, ولعدم وضوح الرؤية حول الأسس والمباديء التي يتبناها بعض المتحاورين من أتباع المذاهب, وعدم الإخلاص تارة وخلطها بالسياسة تارة أخرى. ولكن هذا التحدي مع ضخامته تذلّله النقد الذاتي والإرادة القوية على التغيير.
والله تعالى أسأل أن يلهمنا الرشد ويوفقنا لما فيه صلاح الأمة ووحدتها إنه جواد كريم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والله المستعان.

 

-----------------------------
([1])البقرة آية 85.
([2])سورة المؤمنون آية 52.
([3]) الحجرات آية 13.
([4])سورة يونس 19.
([5])المائدة 48.
([6])سورة آل عمران 103.
([7])سورة الأنفال 105.
([8])شرح النووي ج11/91.
([9])آخر مصدر ج11/92.
([10])سورة السبأ 25.
([11])صفوة التفاسير لمحمّد علي الصابوني , تفسير سورة سبأ.
([12]) انظر تقريب التهذيب للحافظ ابن حجر العسقلاني.
([13])انظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري للإمام الحافظ أحمد بن عليّ بن حجر العسقلاني , كتاب الإيمان باب 29 ج1/ 93.
([14])سورة البقرة 113.
([15])انظر كتاب" الخلفاء الراشدون"للمؤلف عبد الوهاب النجار ص8-9, تاريخ الأمم الإسلامية [ الدولة الأموية] للشيخ محمد الخضري بك ج1/ 158.
([16])البداية والنهاية في التاريخ لأبي الفداء الحافظ بن كثيرالدمشقيت774,ج5/271,تاريخ الأمم الإسلامية ج2/42.
([17])البداية والنهاية ج5/320.
([18])آخر مصدر ص 360.
([19])تاريخ الأمم الإسلامية ج2/72 , البداية والنهاية للحافظ ج5/ 386.
([20])البداية والنهاية ج5/360, الخلفاء الراشدون ص 401- 402.
([21])سورة البقرة 120.
([22])سورة المائدة 82.
([23])أخرجه أبو داود في سننه كتاب الملاحم حديث رقم 4297 ج4/483.
([24])سورة المائدة 51.
([25])أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري, كتاب العلم ج16/219.
([26])سورة النور 63.
([27])سورة آل عمران 193-140.
([28])سورة النساء 104.
([29])سورة محمّد 35.
([30])سورة النفال 60.
([31])صحيح مسلم ج11/91.
([32])سورة سبأ 25.