ـ(179)ـ
ولقد ظل الإسلام ـ عبر العصور كلها ـ الفخر التاريخي لأمتنا، وطاقة المد الدائمة في حياتنا والأمل الباسم لمستقبل أجيالنا.
والمسلمون الأولون لم يعرفوا شيئاً يدعى "مذاهب" في شريعة القرآن بل قامت وحدتهم على العقيدة الواحدة التي جمعتهم بعد فرقة، وألفت بينهم بعد اختلاف، وأقامت لهم حضارة علمت الإنسانية ـ لأول مرة ـ كيف تحيا على العزة والحرية والكرامة.
والوحدة التي يريدها الإسلام لأمته، تقوم أساساً على المساواة التي لا يمتاز فيها مسلم على آخر إلاّ بتقوى الله والعمل الصالح: "إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم".
كما إنّ المسلمين ـ في سالف الزمان ـ لم يعرفوا الخلاف بين العلم والدين فقد كان يلتقي الجميع على صعيد واحد، حيث كان يقف على جانب من هذا الصعيد: المفسرون والمحدثون والفقهاء والأئمة المجتهدون، ويقف على الجانب الآخر: الفلكيون والجغرافيون والرياضيون والمؤرخون وعلماء الطبيعة. فإذا ما فرغوا من كدهم واجتهادهم وأخلدوا إلى الراحة، أقبل بعضهم على بعض، يداً تصافح يداً، وقلباً يصافي قلباً، ولقاء لا يشوبة شيء من عوامل الفرقة، بل يرى كلّ في صاحبه عونا لـه على ما هو بصدده، شأن المفكرين الأحرار، الذي أطلقوا من غل التقيد، وتحرروا من علة التقليد، وترفعوا عن الغمز واللمز والتنابز بالألقاب.
فهذا زيد بن علي ـ صاحب كتاب المجموع ـ يتلقى الفقه وأصول العقائد على أبي حنيفة النعمان رغم أن هذا سني والأول زيدي. وأبو حنيفة يأخذ الحديث وبعض مسائل الفقه وعلوما أخرى عن الإمام جعفر الصادق سادس أئمة آل البيت عليهم سلام الله حيث تتلمذ عليه حولين كاملين، وكان يردد كلمته المشهورة: "لولا السنتان لهلك النعمان". كما كان يمتدحه ويطريه فيقول بشأنه: "ما رأيت أفقه من جعفر بن محمّد."