/ صحفة 197 /
وما أساء على بن جريج، بل أحسن في زيادته عليك بقوله:
لو كنت يوم الوداع شاهدنا وهن يطفين غلة الوجد
لم تر الا دموع باكية تسفح من مقلة على خد
كان تلك الدموع قطر ندى يقطر من نرجس على ورد
وسبقك أبو تمام إلى معنى البيتين معاً بقوله:
من كل زاهرة ترقرق بالندى فكأنها عين إليه تحدر
تبدو ويحجبها الجميم(1) كأنها عذراء تبدو تارة وتخفر
خلق أطل من الربيع كأنه خلق الامام وهديه المنتشر
في الأرض من عدل الامام وجوده ومن الربيع الغض سرح يزهر
ينسى الربيع وما يروض جوده أبدا على مر الليالي يذكر
قال: فشق ذلك عليه، وحل حبوته ونهض، فكان آخر عهدي بمؤانسته، وغلظ ذلك على محمد بن يزيد، وقدح ذلك في حالي عنده(2).
من هذه القصة نقف على حقائق بالغة الأهمية، في نظرة المبرد للشعر، فنحن نجده يتعصب للبحتري تعصبا واضحا، وقد جاء في خبر آخر أنه كان يتعصب على أبي تمام تعصبا شديدا، وقد يكون للصلة بين البحتري والمبرد أثر في هذه العصبية، ولكن الذي لا شك فيه أن سلوك المبرد في الاختيار يؤكد ـ عندي ـ أن حبه للبحتري كان ناشئا عن رأيه في شعره، وتذوقه له، وطريقا البحتري وأبي تمام مختلفتان جد الاختلاف، فالميل إلى احداهما، والعزوف عن الأخرى ينبئان عن ذوق خاص، ويدلان على اتجاه ثابت في النقد، وقد لخص الآمدي في أول كتابه (الموازنة) طريقة كل من الشاعرين حيث يقول: (لأن البحتري أعرابي الشعر، مطبوع على مذهب الأوائل، وما فارق عمود الشعر المعروف، وكان يتجنب التعقيد، ومستكره الألفاظ ووحشي الكلام … ولأن أبا تمام شديد التكلف

ــــــــــ
(1) الجميم بالجيم: النبت الغزير.
(2) زهر الآداب ج 2 ص 240 ط. مصطفى محمد.