حديث التقريب.. التقريبيون عاشقون

حديث التقريب.. التقريبيون عاشقون

العلاقة بين المذاهب الإسلامية، أو بعبارة أصحّ بين أتباع المذاهب الإسلامية إن دخلت ساحة العاشقين فإنك ستجد ثمة الوحدة والوئام والبحث عن المشتركات والتفاهم والتعاون في المتّفق عليه؛ ستجد الإعراض عن الصغائر والاتجاه نحو الأهداف الكبيرة الملقاة على عاتق خليفة الله في الأرض.


العشق في منظومة الثقافة الإسلاميّة العرفانية، هو تحرر الإنسان من ذاتيته وأنانيته؛ تحرره من كل حصار يقيّد فكره وحركته، تحرره مما يعانيه من إصر وأغلال.. هذا الإنسان المتحرر هو وحده الذي يستطيع أن يرى الجمال في الكون والحياة والإنسان.

الفرد القابع في «الطين» وفي «الحمأ المسنون» لا يستطيع أن يرى الجمال، وإن سعى بدافع من «ظمأ» فطري نحو الجمال فإنه يسعى نحو سراب يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.

وإذا رأى المتحرّرُ الجمالَ عشقه وانشدّ إليه، وتصاعد في داخله الشوق إلى كل ما هو جميل.. هذه الأشواق إلى الجمال هي وراء كل حركة تكاملية في الإنسان، ولذلك فان العرفاء يدعون الله أن يزيد شدة نار الشوق في صدورهم، ويزيد اللهيب في قلوبهم. يقول الشاعر الفارسي :-

(شعر فارسي) الهـــي سينـــــــه‌اي ده آتـــــــش افـروز/ در آن سينه دلي و آن دل همه سوز
أي : يا ربّ هب لــــــي صـــــدرًا ملتهبًا/ وفي هذا الصدر قلب مفعم بالحرقة

وجلال الدين الرومي في "قصة الناي"، يرى أنّ أنين الناي يعبّر عن هذه الأشواق، وأن ما في داخل الناي هو نار وليس هواء.. ويدعو على كل من ليست في داخله هذه النار أن يفنى ويموت :-
(شعر فارسي) "آتش است آن بانـــــك نــــاي و نيست باد/ هــــــر كه آن آتــــش نـــــدارد نيـــــــســـــــــت بــــاد"
أي : إنها النار في صوت الناي وليس الهواء/ وكل من ليس عنده هذه النار فإلى الفناء

تحرر.. وجمال.. وعشق.. وأشواق.. أشواق إلى كل كمال في الكون والحياة والإنسان؛ هذه المنظومة تفسّر لنا الفرق بين الراسفين في أغلال ذاتياتهم وأنانياتهم، وبين المتحررين المتحركين على طريق الكمال.. والكامل المطلق هو الله سبحانه.

ومن مظاهر العاشقين أن يتجهوا إلى ما فيه الألفة والمحبّة والتفاهم والانسجام، لأنها المعاني «الجميلة»في علاقات الإنسان مع الآخر.. على عكس الراسفين في أغلال أنانيتهم لا يألفون ولا يؤلفون.. ديدنهم الخصام.. وعادتهم الصدام.. لا يرون في الحياة سوى ذاتهم، ويريدون أن يفرضوا هذه الذات على الآخرين، وأن يجعلوها ميزانًا في تقويم كل شيء، وفي النظر إلى كل شيء.

والعلاقة بين المذاهب الإسلامية، أو بعبارة أصحّ بين أتباع المذاهب الإسلامية إن دخلت ساحة العاشقين فإنك ستجد ثمة الوحدة والوئام والبحث عن المشتركات والتفاهم والتعاون في المتّفق عليه؛ ستجد الإعراض عن الصغائر والاتجاه نحو الأهداف الكبيرة الملقاة على عاتق خليفة الله في الأرض.

أما حين تدخل ساحة المغلولين بذاتياتهم وأنانياتهم فلا ترى إلاّ التراشق بالتهم والبحث عن الإثارة والاستفزاز.

اللهم اجعلنا من العاشقين.. فإن كنا عاشقين كنّا تقريبيين.. وكنّا من السائرين نحو جمالك.. وكل 
جمالك جميل.

ذكرنا أنّ أنين الناي تحركه نار العشق لا الهواء.. فالعشق هو الطاقة التي تحرّك الانسان الى المطلق.. وهذا المعنى للعشق من أهمّ ماتدور حوله مفاهيم العرفان الاسلامي.. ومن أجمل مايحمله هذا العرفان من خطاب إنساني.

ومفهوم العشق في العرفان واضح وهو بعبارة بسيطة : التخلّص من أغلال "الطين"، والانطلاق في جوّ الكون الفسيح في حركة لانهاية لها نحو الجمال والكمال.

والدعوة الى العشق تستوعب جزء هاماً من كتاب المثنوي، يطرحها بأساليب مختلفة، ولأهميتها يخصص لها القطعة الثانية من الكتاب؛ يدعو في هذا المثنوي ابنه، أو أي ولدٍ – في إشارة الى أنه موجّه أولاً الى الشباب – ويقول : حرّر نفسك من قيود المال والمتاع، فحاجة الانسان من متاع الدنيا محدودة.

وهذه الدعوة لا تعني طبعاً الانعزال عن ممارسة النشاط الاقتصادي في الحياة، بل هي دعوة الى الابتعاد عن الحرص والطمع والذاتية والأنانية، وهو مما يستلزم النشاط الاقتصادي السليم في كل مجتمع كي يتجه الاقتصاد الى خدمة المصلحة العامة.

ولا سبيل الى التحرّر من هذه القيود إلا أن تكون عاشقاً فالعشق يطهّر الانسان من العيوب، ويسمو به، ويجعل الجبل دكّاً ويخر موسى صعقا. يقول، ما ترجمته :-
أيها الغلام اكسر القيود وتحرر، الى متى تبقى في أسر الذهب والفضة؟/  لو صببنا ماءَ البحر في كوز، فما مقدار ما يستوعبه الكوز؟ مقدار مايمكن استهلاكه في يوم واحدٍ./ عين الطامعين لا تمتلئ أبداً، نعم، لو لم تقنعِ الصَدَفة لما امتلأت درّاً / من دخل في تجربة العشق، فقد تطهّر تماماً من الاطماع والعيوب / كن قرير العين أيها العشق، يا منيتنا الجميلة، يا طبيب كل أمراضنا./ يا دواء أنانيتنا وذاتياتنا، يا أفلاطوننا وجالينوسنا /  الجسم الترابي بفضل العشق سما على الأفلاك ، بل إن الجبل اهتزّ بفضله راقصاً / أيها العاشق، إن العشق قد منح الجبل روحاً وحياة، حتى أن الطور أصبح ثملاً وخرّ موسى صعقاً.

وفي الأبيات إشارات الى أن العشق يحرّر الانسان من أغلال الجسد ويسمو به، وأن السبيل الوحيد لتخلّص الانسان من الذاتية والأنانيّة هو العشق، الحكمة اليونانية اتخذها المتكلمون لتربية الانسان وتهذيبه، ولجأوا في ذلك الى أفلاطون وجالينوس ، لكن أفلاطون العارفين وجالينوسهم هو العشق، فبه يسمو الانسان وتتفتح أمامه أبواب الحكمة والمعرفة والكمال.

ثم يشير بعد ذلك الى التجلّي الالهي في طور سيناء لموسى. وما فعله هذا التجلّي بالجبل وبموسى، في إشارة الى أن العشق يستمدّ وجوده الحقيقي من الجمال الالهي المطلق.

المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية/
الشؤون الدولية